و سألنا التاريخ : ما هي السريّة التي بسطت هيبة الدولة الإسلامية في شمال
الجزيرة ، وكسرت عصا التمرّد التي طالما أشهرتها بعض القبائل العربيّة الموالية
للروم ، وكانت أيضاً سبباً في إسلام الكثير من أهالي بني مرة ، وبني ذبيان ، ودخول
غيرهما في حلف مع المسلمين ، لأجابنا بدون تردّد : إنها سريّة ذات السلاسل ، التي
وقعت في السنة الثامنة للهجرة.
وكان الباعث لهذه
السريّة ، هو إحساس النبي – صلى الله عليه وسلم – بالخطر المحدق بهم جرّاء التحركات
المريبة التي تقوم بها قبيلة قضاعة ، والتي تنبيء عن وجود محاولات حثيثة للهجوم على
المدينة وتطويقها .
ومن هذا المنطلق أمر النبي – صلى
الله عليه وسلم – أصحابه بالنفير ، على الرغم من عودتهم القريبة من معركتهم في مؤتة
، ولم يمض وقت طويل حتى كان ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار على أهبة الانطلاق
.
وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن العاص قائلا : ( خذ عليك ثيابك
وسلاحك ثم ائتني ) ، فأتاه رضي الله عنه وقد لبس عدة الحرب ، فقال له :
( إني أريد أن أبعثك على جيش ، فيسلّمك الله ويغنمك ، وأرغب لك من
المال رغبة صالحة ) .
لقد كان النبي – صلى
الله عليه وسلم – يريد أن يستفيد من الخبرات القتالية لعمرو بن
العاص رضي الله عنه ويتألّف قلبه في الوقت ذاته ، فلم يمضِ على إسلامه وقت
طويل ، لكن إجابة عمرو رضي الله عنه كانت تعكس رسوخ
إيمانه ويقينه فقد قال : " يا رسول الله ، ما أسلمت من أجل المال ، ولكني أسلمت
رغبة في الإسلام ، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " ، فتهلّل وجه
النبي – صلى الله عليه وسلم – بشراً وقال له : ( يا عمرو ، نعم المال الصالح للمرء الصالح ) رواه أحمد .
وسار الجيش الصغير
بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه مستحضراً وصايا رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – التي كان يوصي بها البعوث ، وفي أثناء ذلك مرّ بموضع
ماء يقال له " السلسل " ، ومن هنا جاءت تسمية هذه السريّة ( ذات السلاسل
).
وترامت الأنباء إلى عمرو
رضي الله عنه بالأعداد الكبيرة التي سيواجهها جيش المسلمين ، وحينها أدرك أن
المعركة لن تكون متكافئة ، فأرسل رافع بن مكيث الجهني
رضي الله عنه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يطلب المدد ، فبعث إليه
بمائتي صحابي تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح ، وبصحبة
أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب
، رضي الله عنهم أجمعين .
ووصلت الإمدادات
إلى جيش عمرو بن العاص رضي الله عنه فتلقّاهم المسلمون
بالفرح الشديد ، وسار الجميع على نحو بالغ الحذر حتى لا يتمكّن العدوّ من رصد
تحرّكاتهم ، فكانوا يتابعون السير تحت جنح الظلام فقط مع الاختفاء في أوقات النهار
.
وفي إحدى الليالي حاول بعض المسلمين إشعال النيران
ليتقوا بها شدة البرد ، فنهاهم عمرو رضي الله عنه عن ذلك
أشدّ النهي ، وهددّ من يخالف أمره أن يلقيه في النار ، فشكى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه شدّة عمرو ،
فذهب إليه وكلّمه ، لكنّ عمْراً رضي الله عنه أصرّ على
رأيه ولم يتنازل عنه ، وكان إصراره مثار
استغراب.
وعندما وصل الجيش الإسلامي إلى وجهته صال
وجال موجّهاً ضرباته المؤلمة على قضاعة ومن معها ، وأثخن فيهم القتل ، ولم يطل صمود
الأعراب كثيراً فبادروا بالفرار ، وتأهّب الصحابة لمتابعة فلولهم ، لكنّ عمرو بن العاص رضي الله عنه منعهم من الإقدام على ذلك ، وأصدر
أوامره بالعودة ، فأطاعه المسلمون على مضض .
ثم جاء
الموقف الثالث الذي أثار حفيظة البعض ، وذلك حينما تيّمم عمرو
بن العاص رضي الله عنه بدلاً من اغتساله للجنابة ، وصلّى بالناس إماماً ،
ولم ينجح أحدٌ في كشف الغموض المحيط بتلك المواقف .
ووصل
الناس إلى المدينة ، وكان أول ما فعلوه هو الذهاب إلى رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – يشكون إليه ما فعل بهم عمرو بن العاص رضي الله
عنه في أثناء رحلتهم ، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عن السبب الذي دعاه إلى فعل
كل ذلك ، فبيّن أن منعه من إيقاد النار كان لأجل ألا يرى العدو قلّة عددهم فيطمع
فيهم ، وأن إصراره على عدم مطاردة العدو بسبب مخافته أن يكون الهروب مجرّد كمين
منصوب لهم ، وأن امتناعه عن الاغتسال بالماء كان استناداً إلى قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ( النساء 29 ) ،
وقد خشي على نفسه أن يهلك من شدّة البرد ، فأعجب النبي – صلى الله عليه وسلم –
بذكائه وحنكته ، وعلمه واجتهاده .
ومع ما حققته هذه
المعركة من أهداف على الصعيد الميداني ، فقد أسهمت كذلك في إبراز عمرو بن العاص رضي الله عنه كشخصيّة فذّة ، وقيادة حكيمة ، كان
لها دورها في الفتوح الإسلامية بعد ذلك